السبت، 26 مايو 2007

سلاح الفتنة


اقامت الادارة الامريكية يوم امس جسرا جويا لنقل اسلحة ومعدات عسكرية متطورة الي الجيش اللبناني، حيث حطت ثماني طائرات من طراز سي 130 العملاقة في مطار بيروت الدولي وافرغت حمولتها مباشرة الي مستودعات هذا الجيش.هذه الخطوة الامريكية التي تعكس تدخلا مباشرا وسريعا في الأزمة اللبنانية في شقيها القديم والاحدث، لا يمكن الا ان تكون مشروع فتنة ، ودفعا باتجاه خيار المواجهة المسلحة، ابتداء من اقتحام مخيم نهر البارد، ولتمتد بعد ذلك الي باقي المخيمات الفلسطينية وربما الي حزب الله تحت ذريعة تطبيق قرار مجلس الامن الدولي رقم 1559 الذي يطالب بنزع كل سلاح غير شرعي في البلاد.تاريخ التسليح الامريكي في المنطقة، وباقي مناطق العالم، يفيد بان الادارات الامريكية لا يمكن ان تدعم اطرافا بالعتاد العسكري المتقدم، اذا كانت هناك شبهة، ولو محدودة للغاية، بان هذا العتاد سيستخدم ضد الدولة العبرية، فلم تحصل مصر علي مساعدة عسكرية امريكية تتضمن اسلحة حديثة الا بعد توقيعها اتفاقات كامب ديفيد، والتزامها بانهاء حالة الحرب مع اسرائيل بشكل نهائي.وعندما ترصد الولايات المتحدة اكثر من ثمانين مليون دولار لتدريب حرس الرئيس محمود عباس وتسليحه، فانها متيقنة ان هذا الحرس لا يمكن ان يستخدم اسلحته الا في مواجهة حركات المقاومة الاسلامية، و حماس علي وجه التحديد. فالمسألة مسألة وقت وتوقيت.الادارة الامريكية فتحت مخازنها في عجالة غير متوقعة لتسليح الجيش اللبناني من اجل الدخول في مواجهة مع الفلسطينيين، وتحت شعار يوحد الغالبية الساحقة من اللبنانيين هو الثأر لكرامة الجيش المهدورة علي ايدي جماعة فتح الاسلام الاصولية القريبة من ايديولوجية تنظيم القاعدة .فالمجموعة التي لا يزيد تعداد عناصرها عن مئتي مسلح علي اكثر تقدير، ليست قوة عظمي كما انها ليست كفؤا للجيش اللبناني مهما قيل عن ضعفه. والقضاء علي هذه المجموعة لا يحتاج الي جسر جوي امريكي بهذه الضخامة فلا بد ان هناك خطة ما غامضة لا نعرفها.ومما يثير الريبة والشك، ان السيد فؤاد السنيورة ومعظم المسؤولين في حكومته تلعثموا عندما سئلوا قبل يومين عن ردهم علي تصريحات المتحدثين الامريكيين حول عزم حكومتهم دعم الجيش اللبناني بالاسلحة، ونفوا ان يكونوا قد طلبوا مساعدة عسكرية من اي نوع من الادارة الامريكية.الجيش اللبناني كان حتي وقت قريب، المؤسسة الوحيدة في لبنان التي حافظت علي وحدتها وتماسكها في ظل انهيار المؤسسات الاخري وانقسام بعضها علي اسس طائفية، او بين التيارين المتنافسين علي زعامة البلد، وهناك خطة ما فيما يبدو لتوريط هذه المؤسسة في الحرب بطريقة او بأخري.فمن اللافت ان هناك عملية تجييش للبنانيين ضد الفلسطينيين ومخيماتهم، وتجييش للفلسطينيين ضد اللبنانيين وجيشهم، ثم بعد ذلك يمكن ان تتطور عملية التجييش هذه، وبعد انهاء الحرب ضد الفلسطينيين اذا ما نجحت الخطة، الي تجييش المسيحيين ضد المسلمين، والعكس صحيح.تركيبة الجيش اللبناني تعكس التوازنات الطائفية في البلد، فثلثه مسيحي، والثلث الثاني سني، والثالث شيعي، وقيادته مسيحية. وأي اخلال في التوازن نتيجة ضغوط امريكية سيؤدي الي تفتيته مجددا، تماما مثلما حدث في غمار الحرب الاهلية التي اندلعت في السبعينات من القرن الماضي.قوة الجيش اللبناني لم تكن ابدا في تسليحه، وتدريبه، ومعداته العسكرية، وانما في التوافق عليه، ونجاح قيادته في ابعاده عن الصراعات والمماحكات الداخلية بين اطراف الحرب الباردة اللبنانية المندلعة منذ اغتيال الراحل رفيق الحريري. ولهذا جرت محاولات دؤوبة في الفترة الاخيرة لتعزيز قوي الامن الداخلي وجعلها جيشا موازيا.صورة الجيش اللبناني، كجيش وطني اهتزت، وتلطخت بدماء الابرياء، الذين سقطوا ضحايا القصف العشوائي لمخيم نهر البارد، ومن المؤكد انها ستتلطخ اكثر اذا ما نجحت الضغوط الامريكية الحالية لتكرار هذا القصف، وارتكاب مجازر جديدة سواء في نهر البارد، او المخيمات الفلسطينية الاخري في لبنان وعددها 12 مخيما ابرزها مخيم عين الحلوة قرب مدينة صيدا.لا احد يؤيد التعدي علي كبرياء الجيش اللبناني، ولكن ما هو مرفوض ان تتحول هذه الكرامة كقميص عثمان، لتوريط الجيش في حرب دموية ضد المخيمات الفلسطينية الحليف الطبيعي له ولقيادته الوطنية، خاصة ان الفلسطينيين لم يكن لهم اي خيار في وجود جماعة فتح الاسلام بين صفوفهم، وتحولوا الي ضحايا لها، يدفعون ثمنا باهظا لظاهرة لم يكونوا مطلقا مسؤولين عنها، وجاءت ثمرة افرازات ظروف لبنانية واقليمية صرفة.دخول الادارة الامريكية بهذه القوة الي الأزمة السياسية اللبنانية، وانحيازها الصريح الي طرف في مواجهة الآخر، يوحيان بان معركة مخيم نهر البارد مفتعلة من اولها الي آخرها، وبهدف تصفية حزب الله اللبناني، كمقدمة للمواجهة الاكبر بين ايران والولايات المتحدة.القوي السياسية الفلسطينية في لبنان، او معظمها وقعت في هذا الفخ، عندما تسرعت باعطاء تفويض للجيش اللبناني باقتحام المخيمات تحت غطاء تصفية جماعة فتح الاسلام ، وكان المثل الابرز علي هذه السذاجة الموقف المتسرع والمندفع للسيد ابو العينين ممثل حركة فتح في لبنان المؤيد لهذا الاقتحام، والذي سرعان ما تراجع عنه ولكن بعد خراب مالطة.لا نعرف كيف ستنتهي هذه الفتنة ، ولكن ما نعرفه ان ما يتعرض له ابناء مخيم نهر البارد من ارهاب وترويع وتجويع وقتل هو ابشع انواع جرائم الحرب، وينبغي ان يحاسب جميع المسؤولين عنها بما في ذلك قادة الجيش، والسيد السنيورة نفسه الذي قدم الغطاء لهذه المجزرة، فالدم الفلسطيني ليس مباحا سفكه بالطريقة التي شاهدناها في الايام الماضية، وابناء المخيمات لا يجب ان يدفعوا ثمن المماحكات المخجلة بين اقطاب السياسة اللبنانية، فهؤلاء لم تكن لهم علاقة باغتيال السيد الحريري، والمحكمة الدولية لمحاكمة قتلته لا تهمهم من قريب او بعيد.استخدام فزاعة التوطين لم تعد تخيف احدا، كما انها لم تعد مقبولة لإذلال الفلسطينيين ومضاعفة معاناتهم في مخيمات لبنان. فالفلسطينيون المتواجدون في سورية والاردن ودول الشتات الاخري هم خمسة اضعاف نظرائهم في لبنان، ومع ذلك لا احد يتحدث عن توطينهم في هذه البلاد، وهم غير ممنوعين من ممارسة اكثر من خمسين مهنة، ولا توجد قوات جيش ترابط علي مداخل مخيماتهم، تفتش كل سيارة داخلة او خارجة، بحثا عن كيس اسمنت او ادوات بناء.ملف المخيمات الفلسطينية في لبنان يجب ان يعالج بطريقة انسانية بعد انتهاء هذه الأزمة، اذا قدر لها ان تنتهي، بطريقة سلمية، وان كنا نشك في ذلك، فكرة النار بدأت في الدحرجة في لبنان، وهي تكبر وتكبر وربما تحرق الكثيرين في طريقها
عبد الباري عطوان
القدس العربي

ليست هناك تعليقات:

آخر المقالات